.تَنْبِيهٌ:
جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكِّرُوا الْقُرْآنَ. فَفَهِمَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ أَنَّ مَا احْتُمِلَ تَأْنِيثُهُ وَتَذْكِيرُهُ كَانَ تَذْكِيرُهُ أَجْوَدَ.وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ تَذْكِيرِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ لِكَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ بِالتَّأْنِيثِ:
{النار وعدها الله} {والتفت الساق بالساق} {قالت لهم رسلهم}.وَإِذَا امْتَنَعَ إِرَادَةُ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ، فَالْحَقِيقِيُّ أَوْلَى.قَالُوا: وَلَا يَسْتَقِيمُ إِرَادَةُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ غُلِّبَ فِيهِ التَّذْكِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{والنخل باسقات}.
{أعجاز نخل خاوية}، فَأَنَّثَ مَعَ جَوَازِ التَّذْكِيرِ قَالَ تَعَالَى:
{أَعْجَازُ نخل منقعر}،
{من الشجر الأخضر} قَالَ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا فُهِمَ بَلِ الْمُرَادُ الْمَوْعِظَةُ وَالدُّعَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْجَارُّ وَالْمَقْصُودُ ذَكِّرُوا النَّاسَ بِالْقُرْآنِ أَيِ ابْعَثُوهُمْ عَلَى حِفْظِهِ كَيْلَا يَنْسَوْهُ.وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ثَعْلَبٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَلَمْ يُحْتَجْ فِي التَّذْكِيرِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمُصْحَفِ ذُكِّرَ نَحْوُ:
{وَلَا يقبل منها شفاعة}.قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ هَذَا أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ كَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ ذَهَبُوا إِلَى هَذَا فَقَرَءُوا مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالتَّذْكِيرِ، نَحْوَ:
{يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألسنتهم} وهذا في غير الحقيقي.
.ضابط الثأنيث:
ضَابِطُ التَّأْنِيثِ ضَرْبَانِ:حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُهُ، فَالْحَقِيقِيُّ: لَا يُحْذَفُ التَّأْنِيثُ مِنْ فِعْلِهِ غَالِبًا إِلَّا أَنْ يَقَعَ فَصْلٌ نَحْوُ:قَامَ الْيَوْمَ هِنْدٌ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ مَعَ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ جَمْعًا.وَأَمَّا غَيْرُ الْحَقِيقِيِّ فَالْحَذْفُ فِيهِ مَعَ الْفَصْلِ حَسَنٌ، قَالَ تَعَالَى:
{فَمَنْ جَاءَهُ موعظة}، فَإِنْ كَثُرَ الْفَصْلُ ازْدَادَ حُسْنًا، وَمِنْهُ:
{وَأَخَذَتِ الذين ظلموا الصيحة} وَيَحْسُنُ الْإِثْبَاتُ أَيْضًا نَحْوُ:
{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصيحة} فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ هُودٍ.وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَذْفِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُ عَلَيْهِ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ.
.التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَعَكْسُهُ:
قَدْ سَبَقَ مِنْهُ كَثِيرٌ فِي نَوْعِ الِالْتِفَاتِ وَيَغْلِبُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ مَدْلُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الْمُهَدِّدَةِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا فَيَعْدِلُ فِيهِ إِلَى لَفْظِ الْمَاضِي تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تعالى:
{ويوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}.وَقَوْلِهِ فِي الزُّمَرِ:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ}.وقوله:
{وبرزوا لله جميعا}.وَقَوْلِهِ:
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وحشرناهم} أَيْ نَحْشُرُهُمْ.وَقَوْلِهِ:
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا}. ثُمَّ تَارَةً يُجْعَلُ الْمُتَوَقَّعُ فِيهِ كَالْوَاقِعِ فَيُؤْتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الْمُضِيُّ تَنْزِيلًا لِلْمُتَوَقَّعِ مَنْزِلَةَ مَا وَقَعَ فَلَا يَكُونُ تَعْبِيرًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي بَلْ جُعِلَ الْمُسْتَقْبَلُ مَاضِيًا مُبَالَغَةً.وَمِنْهُ:
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
{ونادى أصحاب الجنة} وَنَحْوُهُ.وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ فَهُوَ مَجَازٌ لَفْظِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ويوم ينفخ في الصور ففزع}، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُضِيُّ لِمُنَافَاةِ
{يَنْفَخُ} الَّذِي هُوَ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْوَاقِعِ. وَفَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِحْضَارِ التَّحَقُّقِ وَإِنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ لِتَحَقُّقِهِ أَنْ يُعَبَّرَ عن بِالْمَاضِي وَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ وَالثَّانِيَ لَا مَجَازَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ.وَقَوْلُهُ:
{وَإِذْ قال الله يا عيسى}، أَيْ يَقُولُ، عَكَسَهُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يُرَادُ بِهِ الديمومة والاستمرار كقوله:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب}.وقوله:
{ثم قال له كن فيكون}، أَيْ فَكَانَ اسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ تَكَوُّنِهِ.وَقَوْلِهِ:
{وَاتَّبَعُوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}، أَيْ مَا تَلَتْ.وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ}، أَيْ عَلِمْنَا.فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقْلِيلُ فِي عِلْمِ اللَّهِ؟.قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ وَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي فَـ: (قَدْ) فِيهِ لِلتَّحْقِيقِ لَا التَّقْلِيلِ.وَقَوْلِهِ:
{فَلِمَ تقتلون أنبياء الله} أَيْ فَلِمَ قَتَلْتُمْ!.وَقَوْلِهِ:
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أَيْ لَمْ يَتَعَارَفُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ.وَقَوْلُهُ:
{مُنْفَكِّينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْتَهِينَ وَقِيلَ: زَائِلِينَ مِنَ الدُّنْيَا.وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ (مَا انفك) و: (ما زال) إِنَّمَا هُوَ مِنِ انْفِكَاكِ الشَّيْءِ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ.وَقَوْلِهِ:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم}، الْمَعْنَى: فَلِمَ عَذَّبَ آبَاءَكُمْ بِالْمَسْخِ وَالْقَتْلِ؟ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أُعَذَّبُ لَكِنِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا قَدْ كَانَ.وَقَوْلِهِ:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فتصبح الأرض مخضرة}.فعدل عن لفظ (أصبحت) إلى (تصبح) قصد لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ اخْضِرَارِ الْأَرْضِ لِأَهَمِّيَّتِهِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْزَالِ.فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّهُ يَجِبُ نَصْبُ الْفِعْلِ الْمَقْرُونِ بِالْفَاءِ إذا وقع في جواب الاستفهام، كَقَوْلِهِ:
{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} وَ: (فَتُصْبِحُ) هُنَا مَرْفُوعٌ؟.قُلْتُ: لِوُجُوهٍ:أَحَدُهَا: أَنَّ شَرْطَ الْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّصْبِ أَنْ تَكُونَ سببية وهنا ليست كذلك بل هي لإستئناف لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْإِصْبَاحِ.الثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ النَّصْبِ أَنْ يَنْسَبِكَ مِنَ الْفَاءِ وَمَا قَبْلَهَا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مَاءً تُصْبِحْ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ إِصْبَاحَ الْأَرْضِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ رُئِيَ أَمْ لَا.فَإِنْ قِيلَ: شَاعَ فِي كَلَامِهِمْ إِلْغَاءُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَزَالُ- تَرَاهَا- ظَالِمَةً).أَيْ وَلَا تَزَالُ ظَالِمَةً وَحِينَئِذٍ فَالْمَعْنَى مُنْصَبٌّ إِلَى الْإِنْزَالِ لَا إِلَى الرُّؤْيَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنْ أَنْزَلَ تُصْبِحُ فَقَدِ انْعَقَدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ.قُلْتُ: إِلْغَاءُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي كَلَامِهِمْ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا مَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ؟.الثَّالِثُ: إِنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُوجَبٍ تَقْلِبُهُ إِلَى النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين}، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى نَفْيٍ تَقْلِبُهُ إِلَى الْإِيجَابِ فَالْهَمْزَةُ فِي الْآيَةِ لِلتَّقْرِيرِ فَلَمَّا انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنَ النَّفْيِ إِلَى الْإِيجَابِ لَمْ يَنْتَصِبِ الْفِعْلُ لِأَنَّ شَرْطَ النَّفْيِ كَوْنُ السَّابِقِ مَنْفِيًّا مَحْضًا: ذَكَرَهُ الْعَزِيزِيُّ فِي (الْبُرْهَانِ).وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ به زرعا}.الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ لَأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَكَانَ ينقلب النصب إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ فَتَشْكُرُ إِنْ نَصَبْتَ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٍ تَفْرِيطَهُ وَإِنْ رَفَعْتَ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِشُكْرِهِ. ذَكَرَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ قَالَ وَهَذَا وَمِثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ.وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: النَّصْبُ يُفْسِدُ الْمَعْنَى لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمُخَاطَبِ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِلِاخْضِرَارِ وَإِنَّمَا الْمَاءُ نَفْسُهُ هُوَ سَبَبُ الِاخْضِرَارِ.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بلد ميت}، فَقَالَ: (تُثِيرُ) مُضَارِعًا وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ ماضيا مبالغة في تحقيق إثارة الرياح الساحب لِلسَّامِعِينَ وَتَقْدِيرِ تَصَوُّرِهِ فِي أَذْهَانِهِمْ.فَإِنْ قِيلَ: أَهَمُّ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَقَدْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَمَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ وَإِثَارَةُ السَّحَابِ سَبَبٌ أُعِيدَ عَلَى قَرِيبٍ.قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ بِأَهَمِّيَّةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْمُقَدَّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ أَهَمُّهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى الْقُدْرَةِ أَعْجَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَإِثَارَةُ السَّحَابِ أَعْجَبُهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ بِالْمُضَارِعِ وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ إِثَارَةَ السَّحَابِ أَعْجَبُ لِأَنَّ سَبَبَهَا أَخْفَى مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْفِعْلِ أَنَّ نُزُولَ الْمَاءِ سَبَبٌ فِي اخْضِرَارِ الْأَرْضِ وَإِثَارَةُ السَّحَابِ وَسَوْقُهُ سَبَبُ نُزُولِ الْمَاءِ.فَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْعَقْلِ لم نقل أَنَّ الرِّيَاحَ سَبَبُهَا لِعَدَمِ إِحْسَاسِنَا بِمَادَّةِ السَّحَابِ وجهته.وَمِنْ لَوَاحِقِ ذَلِكَ الْعُدُولُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اسم المفعول لتضمنه معنى الماضي، كقوله:
{يوم مجموع له الناس}، تَقْرِيرًا لِلْجَمْعِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَادًا لِلنَّاسِ مَضْرُوبًا لِجَمِيعِهِمْ وَإِنْ شِئْتَ فَوَازِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ:
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع}، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى.فَإِنْ قُلْتَ: الْمَاضِي أدل على الْمَقْصُودِ مِنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ فَلِمَ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَا دَلَالَتُهُ أَضْعَفُ؟ قُلْتُ: لِتَحْصُلَ الْمُنَاسَبَةُ بين (مجموع) و: (مشهور) فِي اسْتِوَاءِ شَأْنِهِمَا طَلَبًا لِلتَّعْدِيلِ فِي الْعِبَارَةِ.وَمِنْهُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، كقوله تعالى:
{وإن الدين لواقع} فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِقْبَالِ بَلْ فِي الْحَالِ.
.مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلَّفْظِ:
هِيَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا- وَهُوَ الْأَكْثَرُ- الْمُشَاكَلَةُ بِالثَّانِي لِلْأَوَّلِ، نَحْوُ (أَخْذُهُ مَا قدم وما حدث). وقوله تعالى:
{وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَأَنَّ الْجَرَّ لِلْجِوَارِ:
{وَالنَّجْمُ والشجر يسجدان والسماء رفعها}.وَقَدْ تَقَعُ الْمُشَاكَلَةُ بِالْأَوَّلِ لِلثَّانِي كَمَا فِي قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة:
{الحمد لله} بِكَسْرِ الدَّالِ، وَهِيَ أَفْصَحُ مِنْ ضَمِّ اللَّامِ للدال.
.مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى:
وَمَتَّى كَانَ اللَّفْظُ جَزْلًا كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تراب}، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ (طِينٍ) كَمَا أَخْبَرَ بِهِ سبحانه في غير موضع:
{ني خالق بشرا من طين} إِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الطِّينِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ إِلَى ذِكْرِ مُجَرَّدِ التُّرَابِ لِمَعْنًى لَطِيفٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَدْنَى الْعُنْصُرَيْنِ وَأَكْثَفُهُمَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مُقَابَلَةَ مَنِ ادَّعَى فِي الْمَسِيحِ الْإِلَهِيَّةَ أَتَى بِمَا يُصَغِّرُ أَمْرَ خَلْقِهِ عِنْدَ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ التُّرَابِ أَمَسَّ فِي الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَنَاصِرِ وَلَمَّا أَرَادَ سُبْحَانَهُ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إسرائيل أخبرهم أن يَخْلُقُ لَهُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ تَعْظِيمًا لأمر ما يخلقه بإذنه إذ كان الْمَطْلُوبُ الِاعْتِدَادَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِ لِيُعَظِّمُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ بِهِ.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابة من ماء} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَاءِ دون باقي الْعَنَاصِرِ لِأَنَّهُ أَتَى بِصِيغَةِ الِاسْتِغْرَاقِ وَلَيْسَ فِي الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعِ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا الْمَاءُ لِيَدْخُلَ الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيُّ فِيهَا.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى:
{تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تكون من الهالكين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَتَى بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخَوَاتِهَا فَإِنَّ (وَاللَّهِ) وَ: (بِاللَّهِ) أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَعْرَفُ مِنْ (تَاللَّهِ) لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الذي جاور القسم أعزب الصِّيَغِ الَّتِي فِي بَابِهِ فَإِنَّ (كَانَ) وَأَخَوَاتِهَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ (تَفْتَأُ) وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَلِذَلِكَ أَتَى بَعْدَهَا بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ وَهِيَ لَفْظَةُ (حَرَضٍ).وَلَمَّا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهد أيمانهم} لَمَّا كَانَتْ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ مُسْتَعْمَلَةً.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النار} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ دُونَ ذَلِكَ مُشَارَكَتُهُمْ فِي الظُّلْمِ أَخْبَرَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْعِقَابِ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ مَسُّ النَّارِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَالِاضْطِرَامِ وَإِنْ كَانَ الْمَسُّ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِشْعَارُ بِالْعَذَابِ.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يدي إليك لأقتلك}، فَإِنَّهُ نَشَأَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ وَتَعْقِيبُهُ بِالْفَاعِلِ ثُمَّ بِالْمَفْعُولِ فَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مفعولان: أحدهما يعدى وصول الفعل إليه بالحرف، والآخر بِنَفْسِهِ قُدِّمَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم}.إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ يُقَالُ كَيْفَ تَوَخَّى حُسْنَ التَّرْتِيبِ فِي عَجُزِ الْآيَةِ دُونَ صَدْرِهَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ حُسْنَ التَّرْتِيبِ مَنَعَ مِنْهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ مَانِعٌ أَقْوَى وَهُوَ مَخَافَةُ أَنْ يَتَوَالَى ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ مُتَقَارِبَاتِ الْمَخْرَجِ فَيَثْقُلَ الْكَلَامُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَئِنْ بَسَطْتَ يدك إلي والطاء والتاء مُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْحَرْفِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا أُمِنَ هَذَا الْمَحْذُورُ فِي عَجُزِ الْآيَةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ مَوْضِعَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْمُقَابَلَةُ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى تَرْتِيبِهِ: مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عَلَى المفعول الذي يعدى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى تَحْسِينِ اللَّفْظِ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَعَلَى نَظْمِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ حَرِيصًا عَلَى التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ قُدِّمَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْآلَةِ فَقَالَ: إِلَيَّ يَدَكَ وَلَمَّا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ حَرِيصٍ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ قَدَّمَ الْآلَةَ فَقَالَ: (يَدِيَ إِلَيْكَ) وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ عُبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالْفِعْلِ وَفِي الثَّانِي بِالِاسْمِ.وَيُؤَيِّدُ ذلك أيضا قوله فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ:
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيديهم}، لِأَنَّهُ لَمَّا نَسَبَهُمْ لِلتَّعَدِّي الزَّائِدِ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَبْسُوطِ إِلَيْهِمْ عَلَى الْآلَةِ وَذَلِكَ الْجَوَابُ السَّابِقُ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى}، مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّجْنِيسِ لِلِازْدِوَاجِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي عَجُزِهَا لَكِنْ مَنَعَهُ تَوَخِّي الْأَدَبِ وَالتَّهْذِيبِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي (يَجْزِيَ) عَائِدًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ لَفْظِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إِلَى رَدِيفِهِ حَتَّى لَا تُنْسَبَ السَّيِّئَةُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ فِي مَوْضِعِ السَّيِّئَةِ: بِمَا (عَمِلُوا) فَعُوِّضَ عَنْ تَجْنِيسِ الْمُزَاوَجَةِ بِالْإِرْدَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيئة مثلها} فَإِنَّ هَذَا الْمَحْذُورَ مِنْهُ مَفْقُودٌ فَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَنَّهُ هو رب الشعرى}، فإن سُبْحَانَهُ خَصَّ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ ظَهَرَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ عَبَدَ الشِّعْرَى وَدَعَا خَلْقًا إِلَى عِبَادَتِهَا.وَقَوْلُهُ:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تفقهون تسبيحهم} وَلَمْ يَقُلْ: (لَا تَعْلَمُونَ) لِمَا فِي الْفِقْهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعِلْمِ.وقوله حكاية عن إبراهيم:
{يا أبت إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ أَبِيهِ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَاحِقٌ لَهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ:
{إِنِّي أخاف} فَذَكَّرَ الْخَوْفَ وَالْمَسَّ وَذَكَّرَ الْعَذَابَ وَنَكَّرَهُ وَلَمْ يَصِفْهُ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ التَّهْوِيلَ بَلْ قَصَدَ اسْتِعْطَافَهُ وَلِهَذَا ذَكَرَ (الرَّحْمَنَ) وَلَمْ يَذْكُرِ (الْمُنْتَقِمَ) وَلَا (الْجَبَّارَ) عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
فَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ حَازِمٍ ** كَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ رَازِقِوَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانوا به يستهزئون} فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعمير بِالسُّخْرِيَةِ دُونَ الِاسْتِهْزَاءِ؟ وَهَلَّا قِيلَ: (فَحَاقَ بِالَّذِينِ اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ) لِيُطَابِقَ مَا قَبْلَهُ؟.وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ هُوَ إِسْمَاعُ الْإِسَاءَةِ وَالسُّخْرِيَةَ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفْسِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: سَخِرْتُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُونَ: عَجِبْتُ مِنْهُ وَلَا يُقَالُ: تُجُنِّبَ ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الِاسْتِهْزَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ السُّخْرِيَةَ ثَلَاثًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ منكم كما تسخرون}، وإنما لم يقل: (نستهزئ بِكُمْ) لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ.وَأَمَّا قَوْلُهُ:
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ:
{نَسُوا الله فنسيهم} وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ وَأَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ الَّذِينَ نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ حَقِيقَةً لَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ.ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ:
{فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخروا منهم}، أي حاق بهم من الله الوعيد لبالغ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَنَزَلَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَتَهَا.وَقَوْلُهُ:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الحرام} وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَعْبَةَ لِأَنَّ الْبَعِيدَ يَكْفِيهِ مُرَاعَاةُ الْجِهَةِ فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِهَا حَرَجٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَرِيبِ وَلَمَّا خَصَّ الرَّسُولَ بِالْخِطَابِ تَعْظِيمًا وَإِيجَابًا لِشِرْعَتِهِ عَمَّمَ تَصْرِيحًا بِعُمُومِ الْحُكْمِ وَتَأْكِيدًا لِأَمْرِ الْقِبْلَةِ.